أخر الاخبار

قصة أنفصام متمرد الفصل الاول حنين محمود رشدى

قصة أنفصام متمرد الفصل الاول حنين محمود رشدى 

قصة أنفصام متمرد الفصل الاول حنين محمود رشدى


قصة أنفصام متمرد الفصل الاول 

قصة أنفصام متمرد بقلم حنين محمود رشدى 

 أنفصام متمرد

البارت الأول

"وجهان لا يعرفان الرحمة"

"ليس كل من ابتسم سليمًا، فبعض الابتسامات تخفي خلفها ألف جنازةٍ لم تُدفن بعد."

كانت الساعة تشير إلى السادسة صباحًا حينما دوّى صوت المنبّه في أنحاء الغرفة الصغيرة، استيقظت د.فرح عدنان على صوت المطر المتساقط من خلف النافذة، ونظرت إلى السقف للحظة، تشعر بثقلٍ غريب على صدرها، وكأن هذا اليوم سيحمل ما لا يُحتمل.

لم تكن تعلم حينها أن حياتها بأكملها ستنقلب رأسًا على عقب.

فرح طبيبة نفسية شابة تجاوزت الثلاثين بقليل، تعمل في إحدى المصحات النفسية الخاصة ذات السمعة المشبوهة، مشهورة بذكائها الحاد وتحليلها العميق لنفسيات من حولها، لكنها لم تكن تعلم أن أصعب مريض قد يُعرض عليها سيكون هو مَن يُحرك قلبها ويُدمّر عقلها في آن.

★★

في الطرف الآخر من المدينة داخل غرفة معزولة تمامًا مضاءة بنور خافت أصفر، يجلس سيف خالد العشماوي رجل في أواخر الثلاثينات طويل، ملامحه وسيمة بطريقة مرعبة، وابتسامته كأنها وُلدت لتُربك القلوب وتُرعب العقول، جسده ممتلئ بالوشوم وأصابعه تتحرك لا إراديًا فوق الطاولة الخشبية البالية، كان يحدّق في الجدار المقابل له يحدث نفسه بصوتٍ خافت، يبتسم فجأة ثم يضحك ثم يصرخ ثم يعود للهدوء في لمح البصر.

-قلتلك متعملهاش بس إنت مبتسمعش الكلام!

-أنا؟! أنا اللي قتلتها؟ لا أنا كنت بتفرّج بس! إنت اللي عملت كده إنت!

-هشششش لو سمحت متزعقش، الدكتور هييجي وهيزعل مننا.

كان الحارس يقف خارج الباب بارتباك يسمع هذه التمتمات، يبلع ريقه كل مرة يسمع اسم جديد أو ضحكة مفاجئة، لكنه لا يجرؤ على الاقتراب، فالكل في هذا المكان يعلم: غرفة رقم 7 هي للعشماوي، والاقتراب منها مخاطرة لا يعود منها أحد كما دخل.

★★

في صباح اليوم ذاته دخلت فرح المصحة ترتدي المعطف الأبيض، وشعرها مربوط بعشوائية أنيقة، رفعت حاجبيها حين رأت المدير بانتظارها في مكتب الاستقبال.

-صباح الخير، دكتورة فرح.

-صباح الخير، خير في حاجة؟

-عندنا حالة جديدة أو بمعنى أدق ملف قديم رجع تاني.

-اسم؟

-سيف العشماوي.

تجمّدت للحظة، عيناها اتسعتا كأنها سمعت اسم شيطان.

-مش دا القاتل المتسلسل؟ اللي عنده انفصام وسبق واترفض علاجه هنا؟!

-هو بعينه ومفيش حد غيرك يقدر يتعامل معاه، خدي بالك يا فرح دا مش مريض عادي.

تنهدت وهي تأخذ الملف، نظرت إلى صورته كان يبتسم بطريقة تشعر بها وكأنه يعلم أنك تنظر إليه الآن.

★★

دخلت الغرفة رقم 7 أول مرة، رائحة العفن ممزوجة بطيف خفيف من العطر الرجالي الثقيل، هو كان جالسًا وبيبتسم.

-أهو وصلت الدكتورة الجديدة.

-أنا د.فرح، وهبدأ معاك جلسات مبدئية نحدد فيها المرحلة الحالية لحالتك.

-حالتي؟ أنا كويس يا دكتورة، المشكلة في الناس، مش فيا.

-الناس مين؟

-كل الناس اللي قتلتهم، واللي هستناهم، واللي عايشين كأنهم مش عايشين.

رفعت حاجبها، فتحت الدفتر وبدأت تكتب ملاحظاتها دون أن ترد.

-بتكتبي إيه؟ ها؟ بتكتبي عني إيه؟

-بسجل الحوار عشان أراجع لاحقًا.

-كذابة! انتِ زيهم بتراقبيني، بتكتبيني، بس أنا مش لعبة!

ثم فجأة هدأ.

-بس عجباني، نظرتك شبيهة بنظرة واحدة كنت بحبها زمان.

-مين؟

-قتلتها.

مرت الأيام وكل جلسة كانت تحمل معها فصلًا جديدًا من الغموض، فرح كانت تحاول تحلل شخصيته المعقدة، سيف كان يُغريها بكلماته، يخيفها بنظرته، ويُربكها بتناقضاته.

-أوقات بحسك دكتورتي، وأوقات بحس إنك ضحيتي الجاية.

-وأنا بحس إنك طفل بيصرخ جواه ومش لاقي حد يسمعه.

-وأوقات بحس إني بحبك يا فرح.

★★

في أحد الأيام دخلت الغرفة ولم تجده، كان الباب مفتوحًا وعلى الجدار عبارة مكتوبة بدم:

-"لو كنتِ خايفة إعرفي إن الخوف مش بيفرق بين دكتورة وضحية."

جسمها كله ارتجف، سمعت صوت خافت خلفها.

-هاجمتيني؟ ولا وحشتك جلساتي؟

استدارت بسرعة، كان يقف خلفها يبتسم، وشعره مبلل بماء المطر.

-إزاي خرجت؟!

-الدكاترة بينسوا مفاتيحهم أوقات، وأنا بحب أتعرف أكتر على الناس اللي بتحاول تعالجني.

اقترب منها ببطء، قلبها كاد يتوقف، لكنه همس:

-لو قولتلك إني بحبك هتصدقي؟ ولا هتحجزيلي جلسة زيادة؟

في هذه اللحظة شعرت فرح بشيء غريب داخلها، خوف؟ انجذاب؟ شفقة؟ لا تعلم، لكنها كانت على يقين من شيء واحد: هذا الرجل ليس مريضًا فقط، هو مرآة مكسورة لكل ما دفنته في قلبها من وجع وحب ومرض، ولأول مرة وجدت نفسها هي الأخرى تجلس على كرسي المريض، فرح وقفت مكانها إيدها بتترعش، بتحاول تبان ثابتة قدامه بس الحقيقة إن قلبها كان بيخبط في صدرها كأنه هيكسر ضلوعها ويهرب، سيف قرب منها خطوة كمان، المسافة بينهم بقت مخيفة بس فيه حاجة غريبة في نظرته، مش نظرة قاتل، كانت نظرة حد موجوع، نظرة حد بيدور على طبطبة وبيخبّي ده تحت طبقات من الجنون والسخرية والدم.

-ليه بتبصيلي كده؟ خايفة؟

-أنا مش بخاف.

-كذابة كل الناس بتخاف حتى اللي بيدّعوا إنهم شجعان، الخوف مش جريمة يا فرح، بس الكذب؟ آه، الكذب جريمة زي القتل.

بصتلُه وهي بتحاول تفهم هو مين فيهم؟ سيف ولا اللي جواه؟

-هو أنت بتشوفه دلوقتي؟ الشخصية التانية؟

ضحك، ضحكة خفيفة كأنها طلعت من بئر مظلم.

-هو؟ هو دايمًا معايا، بيصحى لما أنام، وبينام لما أصحى، أوقات بنتخانق، أوقات بنتصالح، بس هو بيحبك، وأنا؟ يمكن كمان بقيت بحبك.

فرح بصّت بعيد، بتحاول تهرب من نظرته، من سخريته، ومن مشاعرها اللي بتتولد غصب عنها.

-إنت محتاج علاج بس مش هنا، المكان دا مش آمن، لا ليك ولا للناس اللي حواليك.

-وانتِ شايفة نفسك آمنة معايا دلوقتي؟

-أنا اللي اخترت أبقى هنا، واخترت أكون دكتورتك.

وقف فجأة.

-دكتورة إيه؟ هو دا اسمه علاج؟ بتيجوا هنا وتكتبوا علينا تقارير؟ بتقولوا مضطرب نفسيًا، خطر على المجتمع، طيب ما المجتمع كله خطر علينا! شوفي حوالينا الشوارع مليانة ناس بتمشي ووشها ميت، قلوبهم فاضية، الناس كلها مجنونة بس الفرق إن أنا اعترفت.

كان كلامه بيدخل جواها زي سكاكين، مؤلم، حقيقي، مريب.

-أنا عايزاك تفضل هنا، هنعمل جلسات منتظمة.

-بلاش الجلسات، خلينا نكلم كأننا اتنين بني آدمين مش دكتور ومريض، كده كده انتِ مش طبيعية زَيّك زَيّي وإلا كنتي اختارتي تعيشي حياة مريحة بعيد عن عيال زَيّي.

بعد اليوم ده بدأت فرح تتعمق أكتر في دراسة ملف سيف، واكتشفت حاجة غريبة جدًا، أغلب الضحايا اللي قتلهم كان في بينهم رابط نفسي واحد، كلهم مارسوا الكذب أو الخيانة، ضحية كانت بتخون جوزها، ضحية كانت بتتاجر في الأطفال، ضحية كانت بتكذب على مريض وتموت ناس بأدوية غلط، سيف مكانش بيقتل عشوائي، كان بيقتل الناس اللي بيعتبرهم وحوش مقنّعة، وهو بيعتبر نفسه المنقذ.

★★

اليوم اللي بعده دخلت عليه وكانت ملامحه مختلفة، شكله ناعم أكتر، طريقته هادية، قاعد في ركن الغرفة وبيكتب في كراسة قديمة.

-إيه اللي بتكتبه؟

-قصيدة.

-قصيدة؟!

-آه، بحب الشعر، وخصوصًا لما يكون فيه وجع.

مدلها الورقة وكان مكتوب:

-"أنا مش مجنون، أنا صوتهم العالي لما بيتكتموا، أنا إيدهم اللي مقدرتش تحارب، أنا دمهم اللي فضل يسيل من غير ما حد يسأل "مالك؟"، أنا الوجع، أنا الحقيقة اللي مبنحبهاش."

اتأثرت فرح رغم إنها كانت عارفة إنه قاتل، لكنها حست بحاجة أقرب للشفقة، أو يمكن للحيرة.

-ممكن أعرف إمتى بدأت الشخصية التانية تظهر؟

سكت شوية وبعدها بص في الأرض وقال:

-من وأنا عندي 8سنين كنت دايمًا بسمع صوت بيقولي أهرب، أضرب، اكسر، لكن كنت بسكت لحد ما في يوم حصل حاجة غيرتني.

-إيه اللي حصل؟

رفع عينيه ليها وقال:

-بابا مات بعد ما ضربني وانا نايم عشان كنت بسرق أدوية من شنطته بس أنا مكنتش بسرقها لنفسي، كنت بسرقها لماما كانت بتتوجع وبتكتم وهو مكانش بيهمه غير سُمعته.

سكت لحظة، صوته بقى أهدى.

-بعدها الصوت اللي جوايا بقى أعلى وساعتها سيبت سيف وبدأت أعيش أنا.

فرح بدأت تلاحظ إنه مش بيمثل، مش بيقول ده كحجة، لكن فعلاً فيه جزء من شخصيته انفصل وبقى كيان لوحده.

★★


في يوم خرجت فرح من الجلسة وهي تايهة، نزلت على الكافيتريا، قعدت قدام فنجان قهوة وبدأت تكتب في دفتر ملاحظاتها:

-"سيف لا يُعالج سيف يُحتَوى، خلف كل قاتل قصة، وخلف كل قصة دمعة منزلتش، المشكلة مش في صراخه، المشكلة في صمتنا."

لكن في وسط كل ده مكانتش تعرف إن فيه حاجة أعظم جاية، في إحدى الليالي حصلت جريمة قتل جوه المصحة، الممرضة دعاء اتوجدت مقتولة في الممر، والدم مغرق الأرض، والغريب؟ إن الباب الحديد بتاع غرفة سيف مقفول بالمفتاح من بره! يعني مستحيل يكون خرج، لكن على الجدار مكتوب بجانب الجثة:

-"قلتلكم إني مش لوحدي، وعمري ما كنت."

فرح دخلت في حالة رعب بس كان جواها يقين إن سيف مش اللي قتلها أو يمكن مش سيف اللي هي تعرفه، لكن الشخصية التانية؟ آه، ممكن تكون خرجت بطريقتها الخاصة، الليلة دي منامتش فضلت تراجع كل تسجيلات الكاميرات وتحلل الصوت اللي سيف قاله في آخر جلسة، لكن فيه حاجة واحدة اتأكدت منها، هي مش بس بتعالج قاتل، هي وقعت في حب مريض، والمريض ده ممكن يكون سبب موتها أو خلاصها.


تعليقات