قصه أنفصام متمرد الفصل الثاني
قصه أنفصام متمرد حنين محمود رشدى
انفصام متمرد
البارت الثاني
-هو كان هنا، والله العظيم هو اللي قتلها! ..صرخت إيناس واحدة من الممرضات وهي بتبكي قدام باب غرفة سيف.
الدكاترة والأمن حوالين الجثة، وفرح واقفة في نص الممر عينيها بتدور على أي تفسير، أي دليل، بس الحقيقة كانت صادمة سيف كان جوه، الباب مقفول، والكاميرات مسجلتش أي حركة، ومع كده الجدار عليه دم ومكتوب بخط راسخ:
-"أنا مش محبوس، أنا ساكن في المكان اللي مش بتعرفوا توصلوله."
فرح دخلت الأرشيف جابت كل تقارير المرضى اللي اتعاملوا مع سيف، كل كلمة قالها من أول يوم، كل رسمة رسمها، كل نظرة في عينيه، والمفاجأة؟ في رسمة مرسومة في أول جلسة، جثة واحدة مرمية على الأرض، وحواليها دم متبعثر بنفس طريقة جثة دعاء، يعني هو شاف ده من البداية؟ ولا هو اللي خَلَق اللحظة دي في خياله لحد ما بقت حقيقية؟
★★
في جلسة تاني يوم فرح دخلت عليه الغرفة بس كان شكله مختلف، شعره مبعثر، عينيه بتلمع بشكل غريب، وكان بيرنّم بصوت واطي:
-الدم مش مرعب، المرعب إنك تتعود عليه ..قالها وهو بيرسم تاني بس المرة دي بيرسم صورتها هي بس مش في عيادتها، كان بيرسمها مقتولة.
فرح حسّت برجفة في جسمها لكنها تماسكت، قربت منه وقالت:
-انت اللي قتلت دعاء؟
سيف بصّ لها بنص ابتسامة وقال:
-أنا كنت نايم، اسألي اللي صاحي.
-وهو فين؟
-وراكِ.
فرح اتجمدت، قلبها وقع في رجليها، لفّت بسرعة بس مفيش حد، رجعت تبصله، لقيته بيضحك.
-هو دايمًا بيحب يلعب في دماغ الناس اللي بتحاول تفهمه.
-بس أنا مش أي حد يا سيف، أنا موجودة هنا عشان أساعدك.
-تساعديني؟ انت نفسك محتاجة حد ينقذك.
سكتت، ليه الكلمة دي وجعتها؟ يمكن لأنه صح؟ يمكن لأنها كانت بتهرب من ألمها، من فقدان أخوها في حادث، من الوحدة اللي كانت بتاكلها كل ليلة وهي بتتظاهر بالقوة؟
★★
في ليلة ممطرة فرح مقدرتش تنام، لبست جاكيتها ونزلت العيادة، لقت الباب مفتوح، دخلت تلاقي سيف واقف قصاد المراية بيتكلم مع نفسه بصوت عالي:
-"هي بتحبك، بس مش بتحبني."
-"لو بتحبني، هتخاف مني!"
-"طب نقتلها؟!"
-"لا! لو ماتّت، مين هيفهمني؟"
كانت بتسمع الحوار وكأن فيه شخصين فعلاً جوا الغرفة، بس كان سيف لوحده بيتكلم مع انعكاسه، وبيشد شعره وبيبكي، فرح دخلت عليه بسرعة، حضنته من ضهره وقالت:
-أنا مش هسيبك، هفضل جنبك، حتى لو كنت شايف إنك وحش، أنا شايفة فيك إنسان موجوع.
اتجمد سيف وبعدين لفّ وبصّ لها بعينين مش سيف، لا، دي عينين حد تاني، حد غامض، قاسي، ودموي، قالها بصوت مبحوح:
-انتِ بتحبي سيف، بس أنا مش سيف.
★★
في اليوم اللي بعده المصحة اتقلبت، فيه ملف مريض اختفى، والكاميرات اتعطلت فجأة، والأمن لقى ورقة مكتوب فيها:
-"كل مرة بتقربوا من الحقيقة بمسح كل الأدلة."
المصيبة؟ الورقة مكتوبة بخط فرح! يعني إيه؟ سيف بيقلّد خطها؟ ولا هو فعلاً اتحكم في عقلها بطريقة ما؟
فرح بدأت تشك في نفسها، في ذاكرتها، في كل اللي بيحصل، بتحس إنها بتنسى، بتحس إنها بتتكلم معاه في أحلامها، بتحس إنه بيتسلل لعقلها في النوم، مرة صحت على صوته بيقول:
-تعالي نخرج من هنا، أنا وانتِ نعيش بعيد عن الناس، بعيد عن اللي بيقولوا إني مجنون، بعيد عن الألم.
-سيف مينفعش.
-أنا مش بس سيف، أنا كل الرجالة اللي كسروكي، وكل الولاد اللي كانوا محتاجينك وممدّتيش إيدك، بس أنا الوحيد اللي شافك، وفهمك، وحبك.
فرح بدأت تكتب في مذكرتها:
-"أنا واقعة في حب مريض، يمكن أخطر مريض في المصحة، أنا خايفة، مش منه لكن من نفسي، خايفة أكون اتغيّرت، بقيت زيه؟ أو يمكن هو بيوريني أنا مين من غير أقنعة."
★★
في ليلة هادية سيف طلب يقابلها لوحدهم، دخلت عليه الغرفة، لقت شمعة منورة في الركن، وجنبيها وردة حمراء.
-إيه ده؟!
-عايز أعيش لحظة واحدة كأني إنسان طبيعي.
-طب والقتل؟ الشخصية التانية؟
-هو نام النهاردة، سيبيني أعيش حتى لو لدقايق.
قعدوا سوا، سيف حكى لها عن أيام زمان، عن أمه اللي كانت بتهربه حضن، عن جرحه لما اتسجن ظلم في أول جريمة منسوبة ليه، عن خنقته من الناس اللي مبتسمعش، واللي بتحكم من غير ما تفهم.
-أنا عارف إني خطر، بس انتِ، انتِ الوحيدة اللي شفتيني بني آدم.
فرح دموعها نزلت، قالت له:
-أنا مش بس شايفاك بني آدم، أنا شايفاك حياة كاملة بس مكسّرة.
وفجأة الأنوار اتقطعت، صوت في السماعة الداخلية:
-الكل يظل في أماكنه، فيه محاولة هروب.
فرح قلبها وقع، سيف؟ ولا حد تاني؟ خرجت تلاقي المصحة في فوضى بس المدهش؟
باب غرفة سيف مفتوح، وسيف اختفى، وعلى الحيط كان مكتوب:
-"أنا مكنتش عايز أهرب، بس الحب عمره ما كان سجن."
المكان كان هادي لدرجة تخلّي صوت دق قلبها يدوّي في ودانها، فرح وقفت وسط الممر عنيها بتدور يمين وشمال، كل باب بيبص لها بنظرة شك، الأنوار اتقطعت وسيف اختفى، والكل بيقول هرب، بس هي؟ هي متأكدة إنه مهربش، هو لسه هنا حواليهم، جواهم، دخلت أوضة المراقبة شافت الكاميرات من أول اليوم، سيف مخرجش مفيش أي لقطة تثبت إنه طلع بره، بس في لقطة غريبة، في لحظة معينة اتحركت الكاميرا من نفسها وده مستحيل يحصل، رجعت الكاميرا تاني، ركزت، كبرت الصورة، في المراية كان فيه شخص واقف وراها وهي بتدخل أوضته بس الشخص ده مكانش سيف.
في مكتب المدير كانوا بيتكلموا:
-الولد ده مش طبيعي، إحنا بنتعامل مع عبقري مريض.
-لو ما اتصرفناش هنخسر كل حاجة، البنت دي، الدكتورة واضح إنها مش متماسكة.
-نقل؟
-نقل؟ دا لازم يتحجز في عنبر انفرادي.
فرح دخلت عليهم من غير استئذان:
-انتم مش فاهمين حاجة! سيف مش اللي بيقتل! سيف جزء من اللي بيقتل!
-إيه؟!
-في حد تاني جواه بيستغل جسمه، صوته، حتى دمعته، عشان يخلينا نصدق إننا بنتعامل مع مريض واحد.
-يعني انتِ بتقولي إننا قدام شخصيتين؟
-بل أكتر.
رجعت أوضتها قفلت الباب، وقعدت تراجع ملفات تانية، لقت ملاحظة مكتوبة على طرف ورقة من جلسة قديمة:
-"أول مرة حسيت بصوته كنت في الحمام قال لي: اسكت أنا هتكلم."
الصوت مش أفكار ولا وساوس، لا كان فيه كيان جواه بينفصل وبيتصرّف لوحده.
★★
في نفس الليلة لقت ظرف تحت باب أوضتها، فتحته، لقته جواب مكتوب بخط غريب غير خط سيف:
-"أنا بحبك أكتر منه بس هو اللي خدتِ بالك منه، كل مرة بتبصي في عينيه، أنا اللي ببصلك، كل مرة بيضحك، أنا اللي بجبره يضحك، أنا مش عايز أقتلك بس لو فضّلتِ تحبيه هضطر أقتلك انتِ وهو."
وقعت الورقة من إيدها وبدأ قلبها يدق بسرعة، فيه كيان جوا سيف بيغير، بيهدد، بيحبها.
★★
في جلسة جديدة سيف كان لابس أبيض بالكامل، قاعد عادي، صوته هادي، وشه بريء، قال:
-أنا تعبان يا دكتورة بسمع صوت حد بيصحيني من النوم، بيوجعني.
-بتسمعه دلوقتي؟
-هو مش موجود لما تكوني قدامي، بيخاف منك.
-ليه؟
-بيقول إني بحبك، وده بيضعفني.
سكت وبصّ لها بنظرة خالية من أي خوف:
-بس أنا مبقتش خايف منه، أنا بقيت خايف عليكِ.
في نهاية اليوم وهي راجعة أوضتها لمحت حاجة على المراية، قربت، لقيت وش مرسوم بالدم بيضحك، وتحت الرسمة مكتوب:
-"أنا شايفك حتى وانتِ بتحلمي."
★★