قصة أنفصام متمرد الفصل السادس حنين محمود رشدى
قصة أنفصام متمرد حنين محمود رشدى
أنفصام متمرد
البارت السادسكانت ماسكة الوردة السودة بإيديها، عنيها مش بتطرف، صوابعها بتترعش، والدنيا حواليها كأنها واقفة، المشهد مش طبيعي، وريحة الوردة مش ورد، ريحة دم، الدكتور حسام قالها بحزم:
-انتِ محتاجة تتنقلي جناح العزل فورًا، انتِ بتمرّي بحالة ذهان حاد يا فرح!
بس هي كانت سكتة، كأن صوت العالم اتقفل، ومفيش غير صوت واحد جواها بيتكرر:
-"أنا مش ذهان، أنا واعية أكتر منكم كلكم."
اتنقلت فرح لجناح العزل، أوضة لونها أبيض بس بارد مش مريح، مش أمان، مفيهاش مرايا، مفيهاش نوافذ لكن الجدران كانت بتتكلم، كل شوية تلاقي حاجة مكتوبة اتطبعت على الحيطة، كلمة، حرف، رسم، مرة شافت عنيها، مرة شافت "سيف" ماسك إيدها، ومرة شافت نفسها بتخنق نفسها، كان في دوا بينزل لها في الأكل، كانت عارفة، كل مرة تاكل فيه تحس دماغها بتضلم، عيونها بتثقل، وذكرياتها بتتوه، وفي ليلة قررت متاكلش، وسابت الأكل على جنب وقعدت على الأرض وبدأت تراجع:
-أنا دخلت المصحة دي عشان أعالج المرضى، بس يمكن أنا دخلتها عشان ألاقي نفسي.
وهي بتفكر ظهر وراها ظل طويل، وكان بيهمس:
-كلنا بندخل أماكن معينة على أساس إننا رايحين نغيرها، بس في الحقيقة هي اللي بتغيرنا.
لفت بسرعة، مفيش حد، بس في الحيطة كان مكتوب بخط سيف:
-"أنا مبرحلش، أنا بتحول."
★★
في تاني يوم دخل عليها الدكتور حسام وقالها:
-فرح هنعمل لك جلسة كهربا خفيفة تساعدك ترتاحي وترجعي تتوازني.
-أنا مش موافقة.
-ده لصالحك.
-مش حقدر أقاومه بعدها، مش سيف، أنا.
-سيف مش موجود!
-سيف هو أنا!
سكت الدكتور للحظة وقال:
-إحنا عندنا تسجيلات جلساتك، كل مرة كنتي بتتكلمي فيها مع سيف كنتي لوحدك، بس اللي أغرب من كده إن في تسجيل ليكي وانتِ بتتكلمي بصوته، بنفس نبرته، بنفس طريقته.
صدمتها الحقيقة بس كانت جاهزة، هي كانت بتحس إنه جزء منها، بس دلوقتي عرفت هو مش جزء، هو الكل اللي مخبياه.
اتربت في بيت جامد ممنوع فيه تبكي، ممنوع تصرخ، ممنوع حتى تحب، كبرت وهي بتتعلم تكتم، تكتم غضبها، حزنها، مشاعرها، وجعها، وكل ده كان بيتجمع وكان بيخلق "سيف".
★★
وفي عز الليل صوت خطوات سمعته جوه الجناح، فرح قامت بسرعة وهي متأكدة إن ده مش حلم، الباب اتفتح بس محدش دخل، خرجت بهدوء، الممرات كلها ضلمة، والأنوار بتفصل وتشتغل لوحدها، وبعد أول زاوية لقيت الممرضة سماح مرمية على الأرض، والدم مغرقها، وعلى صدرها مكتوب:
-"الدكتورة فرح بدأت تتحرر."
جرّت رجليها، قلبها بيدق بسرعة، مش عارفة تركّب اللي بيحصل، مين اللي قتل سماح؟ هل فعلاً هي؟ ولا سيف؟ ولا الاتنين واحد؟
وصلت لآخر الممر وفتحت الباب اللي بيؤدي لقبو المصحة، مكان مغلق من سنين، ولقت جوه كرسي، ومراية مكسورة، وصندوق خشب، فتحت الصندوق ولقت جوه صور، صور قديمة جدًا، في صورة ليها وهي صغيرة ماسكة نفس الوردة السودة، وفي ضهر الصورة مكتوب:
-"سيف كان هنا من أول نفس ليكي."
فرح وقفت وبدأت تضحك ضحكة مجنونة فوضوية، وقالت بصوت عالي:
-أنا اللي خبيت، وأنا اللي خلقت، وأنا اللي حررت! أنا وسيف كنا دايمًا واحد بس كنت خايفة أعترف!
وطلعت صوت سيف من جواها:
-وأنا دايمًا كنت مستني اللحظة دي، لحظة ما نندمج ونبقى إحنا المتمرد.
الأنوار ضربت فوشها فجأة، وباب القبو اتقفل من وراها، وسمعت صوت حسام من فوق:
-فرح! افتحي الباب! انتِ بتعملي إيه؟!
قالت وهي بتبص للمراية وبتضحك:
-أنا ببدأ أعيش
والمراية لأول مرة معكستش صورتها، عكست وش سيف.