أخر الاخبار

أسكربت سيجارة الكاتبة ندى ممدوح

أسكربت سيجارة الكاتبة ندى ممدوح

  أسكربت سيجارة الكاتبة ندى ممدوح

سيجارة ندى ممدوح
سيجارة
الابن دائمًا ما يُقلد أبيه، أن كان يصنع خيرًا أم شرًا، وكنتُ أقلد أبي في كل حركاته، وهمساته، وكلماته، وصنيعه، وكنت أرى دائمًا بين إصبعيه سيجارة، ينفث دخانها في شراهة؛ أن كان جالسًا، أم ماشيًا أو أيًا كان ما يفعله فهو يدخن، وكان يتملكني الفضول في أن أجرب هذا الدخان؛ أن أعلم ما طعمه وماذا يفعل في المرء! 
لذا وبدون تردد ذات يومٍ أخذت منه مصروف يومي وذهبتُ إلى البائع وأشتريت منه سيجارة. 
عندئذ تواريت عن الأنظار وجلست في منأى عن البشر، وأشعلت السيجارة بثقابٍ كنتُ قد أخذته من دون علم والدتي، وشرعت آخذ نفسٌ من السيجارة كما كان يفعل أبي لكن ما كاد صدري يحتوي هذا الدخان اللعين حتى سَرَى كالنار في صدري وانتابني سعالٍ حاد ظننت أنه شاطرًا قلبي، فما أن هداء السعال بدأت أنفث دخان السيجارة في تلذذ وتسلية، وتعب أول مرة ذهب هباءً بعد ذاك فلم أعد أشعر بشيء. 
وهُنا كانت البداية.. 
بداية كل شيء.. 
أو نهايته من يدرِ! 
لكنني بعد ذلك لم يعد يمر بيّ يومًا إلا وقد ابتعت سجائر بمصروفي من البائع الذي كان يظن أنها لأبي حتمًا؛ لم يرتابه شك في أنها ليّ. 
وفجأة! 
بدأ كل شيء إلى الزوال، الخطأ دائمًا يفتضح أمره، فبدأت أتعب تعبًا شديدًا وأمسك صدري المتألم وأبكي من شدةِ الوجع، وصرت دائم السعال فأخذني أبي إلى الطبيب ليطمئن على صحتي. 
وهنا كانت الطآمة الكبرى، فالطبيب قال لأبي أني أعاني من ألتهابات حادة على الرئة بسبب التدخين، أذكر ذلك اليوم فقد عدنا من لدن الطبيب وأنهال أبي عليَّ ضربًا ولطمًا وسبًا بأفظع الشتائم وهو ينعتني (بالشمام) فكيف يدعوني بذلك ولا يدعوا نفسه؟! 
أكل هذا لأجل أنني أقلده؟! 
صياح أبي كان يفلق قلبي وهو يسألني مرارًا وتكرارًا من علمني التدخين وخشيت حينئذ أن أخبره أنني تعلمت منه. 
لم يلبث أبي أن كف عن مضايقتي لأيامٍ.. 
نعم، لأيامٍ لم يحادثني، ولم يوجه ليّ سؤالًا، أو ينظر إلى وجهي، وكان هذا عسيرًا جدًا عليَّ؛ فقد أشتقت للحديث معه وللخروج برفقته وبمشاركته أياي جُل أهتمامته. 
وكان عليَّ أنا أن أبادر بالصلح، فذهبت للجلوس بجواره دون أن أنبس ببنتِ شفة، وبدا ليّ أنه لم ينتبه لجلوسي بجانبه فلذت بالصمت متمنيًا أن يبادر بالحديث ولم يخب ظني، فقد قال أبي وهو يشيح البصر عني، بملامح تنبض بالأسى: 
_قُل ليّ يا بُني بالله عليك من علمك شرب السجائر ولا تخف من شيء فقط أخبرني باسمه! 
ولم استطع فرارًا من الرد، كان يجب أن أبوح بما يعتمل صدري، لذا فقد أطرقت وأنا أقول بصوتٍ يقطر ندمًا: 
_أنت! 
فألتفت أبي ليّ برأسه بنظرة حادة، وهو يهتف في انفعال: 
_كيف؟ أنا ماذا؟! 
فقُلتُ بصوتٍ خفيض مفصحًا: 
_لقد تعلمت شرب السجائر منك يا أبي، فقد كنت أراك تفعل ذلك ففعلت. 
وأحسست بالخوف عندما أمتقع وجه أبي وشحب بشدة، وظل يتطلع في مصدومًا، وهو يحرك قدميه في توتر، ويهمس في أسى: 
_أنا؟ يا إلهِ لقد علمتك اسوء الأشياء بدل أن أعلمك 
أفضلها.. لقد كنت اودي بك إلى الجحيم وأنا لا أدري! 
ثم جذب علبة سجائره وألتقط واحدة وأشعل قداحته ثم حدق فيها بما بدا ليّ بتفكير، كأنه يراجع نفسه، فأطفئ نار القداحة وألقى بالسجيارة بعيدًا أعقبها بالعلبة أكملها، ثم نظر لي وقال في هدوء: 
_من اليوم لا يوجد سجائر يا بني أنها لن تقترب فمي مجددًا. 
لم يكن أبي مصليًا، ولكنه منذُ اللحظة، بات يصلي ويأخذني معه إلى المسجد وهو يقول بحنو: 
_تعلم من أبيك يا بني، تعلم الصلاة وأتبع سبيلي تنجو من الهلاك فلولاك لما اهتديت. 
ثم سرت ذاهبًا إلى المسجد برفقة أبي بأصابع يد متشابكة، والبهجة تغمر قلبي غمرًا أنني اقلد والدي وممنون له لأنه قد علمني الصلاة. 
وجعلني أشعر تلك اللذة والراحة في لقاءً مع الله. 
تمت

تعليقات