أسكربت أنين العهبر الكاتبة ياقوت عبد الكريم
ثم مضت الساعات حتى تمازج لونها الأبيض المائل للفضي مع منظر الغروب على امتداد الأفق نحوَ الغرب فأوحى للعين قطعة فنية ولوحة ليست من رسم إنسان بل وتجلت قدرة الإله على إضفاء الجمال لكل ما هو مخلوق في العالم
همست الريح في ذاك الفضاء معزوفة موسيقيا وأغنية من شذى الفؤاد، روت فيها قصة العبهر بما امتلكته من كبرياء ونالت الجزاء.
مشى عبهر الشاب ذو العيون الزرقاء والشعر الأشقر المصفف بعناية تامة، أبيض البشرة مدور الوجه، وهو يحدق في جمعٍ من الناس الذين بادلوه النظرات التي اختلفت بما حوته عن تحديقات عبهر فهو كان يحدث نفسه وفي أعماقه قال:
_هم لن يروا مثل هذا الجمال كل يوم هم لن يصلوا أبداً لمستواي
ثم همس بكل سذاجة:
_ هؤلاء الرعاع ما هم إلا شرذمة غير واعدة
بينما اقتصرت أفكار المارة على كون عبهر شاب شديد الجمال ذو ملامح حادة يسهل تميزها ورغم ذلك تبقى نادرة في تلك البلاد، هم لم يدركوا في أعماق أنفسهم أن المظاهر خداعة وأن العيون ليست السبيل الوحيد لتقييم المرء، فلطالما نبذ عبهر الناس.
أهتزت أوراق الفسحة وانتقلت الرياح بقصتها لذاك السوق حيث كان عبهر يسير ببطء شديد قاصداً إبراز نفسه حتى الخيلاء بان في مشيته ومن بين ذاك الحشد الغزير في ذاك السوق الواسع ظهر خادمه المطيع أبان، تقدم نحوه بحذر تام فسيده معروف بمزاجيته خصيصاً بين عبيده، انحنى بهدوء تام وبكل ثقة قال:
_سيدي وجدت البائع الذي تبحث، فقد مدحه الجميع وقد قالوا عنه / يحيل المستحيل لواقع /
نظرة له عبهر بنظرة باهتة تشعر من يراها بالاشمئزاز والدونية ثم قال:
_سنرى إن كان كلامك صحيحاً...
فرغم كونه مغروراً إلا أنه لا ينجرف مع التيار بما يحمله من أخبار بسهولة.
توجه بعد ذلك للصيدلي أو كما لقبه أبان بالبائع؛ وقف أمام بسطته ثم أنبس:
_هل لديك دواء يخفي هذه البثرة المشوهة للجمال
حدق البائع في وجهه ثم ابتسم فتلك البثرة بالكاد ظاهرة للعلن وأوجز:
_بالطبع يا سيدي
ثم أمسك قارورة زجاجية شفافة تحوي سائلاً مائل للوردي وتابع كلامه:
_ سيدي أمسح تلك البثرة بهذا السائل لمدة ثلاثة أيام ولن يبقى لها أي أثر.
رد عبهر الذي بان عليه الفرح:
_هل أنتَ واثق؟
أجابه البائع بثقة:
_نعم يا سيدي فأنا الصيدلاني الأول في هذه المدينة.
صحيح أنه لا ينجرف مع التيار إلا أن كبره سيطر عليه.
أمسك أبان القارورة بعد أن ناول المال للصيدلي، حيث أشار له عبهر بفعل ذلك، لم يدرك المفتون بجماله حينها وجود ظل كان يتبعه.
عاد بعد ذلك لمنزله الواسع والخاص بعائلته الذين عرفوا بكونهم من أكبر تجار ذاك البلد.
في ذاك المساء لحظة خروج أبان من ذاك المنزل قاصداً قضاء أمر طلبه منه سيده وإذا بالظل، تلك الفتاة الجميلة الوجه بعيون خضراء ساحرة وغمازة آسرة على خدها الأيمن وأنفها المدبب الصغير وعيونها الواسعة وجسدها ممشوق القوام، تقف بطريقه، تحركت نحوه برزانة ثم قالت:
_أأنتَ أبان
أومأ برأسه دالاً على تأكيد السؤال، فرغم أن عقله كاد يسلب منه إلا أنه استطاع إدراك سؤالها.
لكن ما عكر صوفه حينها هو كلامها:
_إذاً أنتَ خادم عبهر المطيع
قالت ذلك بابتسامة
رد حينها:
_نعم أنا
تابعت:
_ لدي صفقة أرغب أن أعقدها معك...
قال باستغراب:
_ صفقة! أي نوع من الصفقات تعقد مع عبد
قالت:
_صفقة تضمن دفع ثمن حريتك.
آن ذاك أصغى أبان للفتاة التي قالت أن اسمها فاتنة وأعلمته بالمطلوب منه.
هو أصغى بدقة بالغة فحلمه هو الحصول على حريته.
في صباح اليوم التالي استيقظ عبهر باكراً عكس عادته، فقد كان اليوم مميزاً بالنسبة له
همس وهو ينهض بحماس: جاء اليوم المنتظر، سأتغلب على الجواد الذي لطالما ادعى أنه أفضل مني في الرماية وسأصطاد أكثر منه، سأكون الفائز في مسابقة الصيد.
بعد أن بدل ملابسه اتجه نحو اسطبل عائلته واختار جواده الناصع البياض (بدر) كان أبان برفقته حيث سأل:
_ سيدي لماذا اخترت بدراً من بين كل الأحصنة؟
رد عبهر بثقة:
_لأنه الحصان الوحيد القادر على منافسة حصان جواد.
قهقهة وهو يقول:
_سيكون النصر لي.
أمتطى بدر الذي بدأ المسير ببطء وخلفه مشى أبان واثنان من الخدم أحدهما يلقب نفسه بالصنديد.
سار الحصان وسط الطريق الذي عج طرفاه بالمشاهدين والمراقبين، بكل كبر غير مبالٍ بنظرات الناس، فعبهر صاحبه يملك من عزة النفس والثقة الكبيرة ما وصل لمرحلة الخيلاء،
أما المراقبين فقد كانوا مندهشين من جمال بدر وصاحبه وقد تسلطت كل الأضواء عليهما وكل النساء الحسناوات زاد حبهن له وزادت رغبتهن بامتلاك ذاك الجمال.
لحظة وصول عبهر وخدمه لمكان المسابقة بحث من خلال عينيه عن جواد لكنه لم يجده عندما سمع أحد المتسابقين يقول:
_لحسن الحظ جواد مريض ولن يحضر مسابقة هذا العام
انزعج عبهر مما سمع فقد تدرب بجد رغم نظرته الدونية للناس وجهز العدة للفوز لكن من كان ينافسه غائب عن ساحة النزال اليوم لذلك سرعان ما ابتسم فقد ضمن الفوز بهذه المسابقة، فهو معروف بدقة رميته.
بعد أن تجمع المتسابقون وخدمهم عند نقطة البداية، ولحظة ارتفاع الشرارة الحمراء في السماء انطلقت الأحصنة بسرعة وخلفهم جرى الخدم.
استطاع عبهر الحصول على ثلاث طرائد خلال نصف ساعة وتعمق بالغابة وأبان وصنديد استطاعا مواكبته بصعوبة، أما الخادم الثالث لم يكن سريعاً بما يكفي لمتابعته.
توقف بدر عن الجري وثبت في مكانه بأمر من صاحبه فقد كان مفترق لعدة طرق أمامهم وبعد خمس دقائق وصل الخادمين
ابتسم أبان بطريقة مريبة ثم قال وهو يشير بسباته:
_ أعتقد أن الطريق الأيسر هو الطريق الصحيح سيدي
نظر عبهر له وسأل:
_هل أنت متأكد؟
هز أبان رأسه بثقة فقد ضمن نجاح خطة فاتنة بعد ذلك أوجز:
_بالطبع سيدي.
تنهد عبهر وبدأ بدر المشي بذاك الاتجاه لكنه سرعان ما زاد سرعته وعاد العبدان للجري.
بينما وقف بدر بأمر من عبهر الذي بحث عن طريدة؛ أدرك أنه وصل لنهاية الغابة وباتت المسافة بين الأشجار تتباعد وآن ذاك لاحظ أنسية تمشي باتجاهه لذلك ترجل عن الحصان ثم سأل:
_ من أنت؟
رفعت الأنسية اللثام عن وجهها وردت بصوتها الأنثوي الرقيق:
_عَبْهَر، يامَن هواه قلبي أنا فَاتِنَة.
ثم قالت في محاولة منها للتقرب منه:
_ يالَكَ من صيّادٍ بارع، لو كان جواد مشارِكًا لهزمته شَرّ هزيمة.
قالت ذلك وهي تمد يدها نحوه كي تصافحه.
أوجز والغرور شع من عينيه:
_ نعم، هذا مما لا شك فيه.
ابتسم باستهزاء ثم تابع:
_ ثم إنني لاأقبل بكِ يافَاتِنَة، فمهما بلغ حُسْنكِ فإنّه بالقياس لحُسنِي قُبْح.
أنهى ماقاله وصَفَقَ يدها بِظَهرِ يده، ولَقَّاها ظهره.
نظرة يائسة في عيني فاتنة بانت وألم سحيق شع في قلبها، حاولت تدارك الأمر إلا أن الغضب بان على وجهها، آن ذاك لم تنطق كلمة واكتفت بالتحديق به لائمة نفسها على وضع مكانة لشخص لا يستحق في قلبها.
بينما هو لم يستمع لبقية كلامها حتى أنه امتطى بدر وتابع المسير
بعد ذلك بدقائق لحق صنديد بالحصان في حين لم يستطع أبان فعل ذلك..
لحظة وصول صنديد صرخ عبهر في تكبر:
_يا عبد، أين كنت؟
لم يستمع صنديد لكلام عبهر بل توجه لمؤخرة الحصان وقام بغرز أبرة حادة، مما جعل بدراً يهوج، أدرك عبهر حينها أن صنديد استغل وجوده مع عبهر لوحدهما ورغب بالانتقام منه بعد أن عاقبه بقسوة قبل بضعة أيام ظلماً
بدأ الحصان بالجري مبتعداً وعبهر يمسك باللجام بقوة كي لا يقع انتظر حتى تعب الحصان وتوقف بشكل مفاجئ ترجل عنه حينها وهو يهمس: ما هذا المكان الغريب
فقد أحاطت به الأزهار الملونة الفتانة من كل جانب في تلك الفسحة الواسعة.
اشتدت همسات الريح وهي تصف التالي في أغنيتها:
_باتت فاتنة مكسورة الخاطر فهي لم تصل لمبتغاها وما دفعته لأبان من مال مقابل المعلومات ذهب سداً، نهظت من مكانها وصوت عويلها ملأ الفضاء
تحولت الريح لعاصفة:
_بينما كان عبهر يسير سمع صوت خرير الماء لذلك أدرك وجود نهر قريب اتجه نحوه ووقف ينظر في صفحة الماء الذي انعكس عليها صورته وبينما كان يمعن النظر في ملامحه تعجب لجمال وجهه كان ينبس:
_ أهذا أنا! لا يوجد مخلوق في هذا العالم يضاهي جمالي.
ومرّ الوقت ،دقائق وساعات وهو مغتر بجماله ولم ينتبه أن يديه تحولت لأوراق وأن ساقيه قد تحولتا لساق خضراء وأنه وجهه شديد الجمال بات يعبر عن بتلات تلك الزهرة المغرورة العبهر.
أوجزت الريح أن الإله استجاب لدعاء فاتنة...
في تلك اللحظات التي سلبها الوقت منه نزل العقاب الإلهي عليه بسبب كبره وتحول لتلك الزهرة
ومن حينها أصبحت العبهر مثالاً حياً عن نرجسية الأزهار وجمالها، آن ذاك أدرك عبهر خطأه لكن الأوان قد فات.
بعد مضي يوم كامل على ذلك عاد الحصان وحيداً للاسطبل الذي خرج منه في صباح اليوم الذي سبقه ومهما حاولوا العثور على مالكه فشلوا.